فصل: ومن باب الحلق والتقصير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم السنن



.ومن باب القصر لأهل مكة:

قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق حدثنا حارثة بن وهب الخزاعي قال: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى والناس أكثر ما كانوا فصلى بنا ركعتين في حجة الوداع».
قال أبو داود: حارثة من خزاعة دارهم بمكة. حارثة بن وهب أخو عبيد الله بن عمر بن الخطاب لأمه.
قلت: ليس في قوله: «فصلى بنا ركعتين» دليل على أن المكي يقصر الصلاة بمنى لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مسافرا بمنى فصلى صلاة المسافر ولعله لو سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاته لأمره بالإتمام وقد يترك صلى الله عليه وسلم بيان الأمور في بعض المواطن اقتصارا على ما تقدم من البيان السابق خصوصا في مثل هذا الأمر الذي هو من العلم الظاهر العام، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصلي بهم فيقصر فإذا سلم التفت فقال أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سَفر.
وقد اختلف الناس في هذا فقال الشافعي يقصر الإمام والمسافرون معه ويقوم أهل مكة فيتمون لأنفسهم، وإليه ذهب سفيان وأحمد وهو قول أصحاب الرأي وقد روي ذلك عن عطاء ومجاهد والزهري، وذهب مالك والأوزاعي وإسحاق إلى أن الإمام إذا قصر قصروا معه وسواء في ذلك أهل مكة وغيرهم.
وحدثني إسماعيل بن محمد بن خشَك بن محرز حدثنا سلمة بن شبيب قال: قال الوليد بن مسلم وافيت مكة وعليها محمد بن إبراهيم وقد كتب إليه أن يقصر الصلاة بمنى وعرفة فقصر فرأيت سفيان الثوري قام فأعاد الصلاة وقام ابن جريج فبنى على صلاته فأتمها، قال الوليد ثم دخلت المدينة فلقيت مالك بن أنس فذكرت ذلك له وأخبرته بفعل الأمير وفعل سفيان وابن جريج، فقال أصاب الأمير وأخطأ ابن جريج ثم قدمت الشام فلقيت الأوزاعي فذكرت له ذلك فقال أصاب مالك وأصاب الأمير وأخطأ سفيان وابن جريج. قال: ثم دخلت مصر فلقيت الشافعي فذكرت ذلك له فقال أخطأ الأمير وأخطأ مالك وأخطأ الأوزاعي وأصاب سفيان وأصاب ابن جريج.
قلت: أما ابن جريج فإنما بنى على صلاته لأن من مذهبه أن المفترض يجوز له أن يصلي خلف المتنفل وأعاد سفيان الصلاة لأنه لا يرى للمفترض أن يصلي خلف المتنفل. وكانت صلاة الأمير عنده نافلة حين قصرها وهو مقيم بمكة واليًا عليها فاستأنف سفيان صلاته. وكذلك مذهب أصحاب الرأي في هذا.

.ومن باب رمي الجمار:

قال أبو داود: حدثنا ابن السرح أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن أبيه، عَن أبي البَدَّاح بن عاصم عن أبيه وهو عاصم بن عدي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد أو من بعد الغد ليومين ثم يرمون يوم النفر».
قلت: أراد بيوم النفر هاهنا النفر الكبير وهذا رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم للرعاء لأنهم مضطرون إلى حفظ أموالهم فلو أخذوا بالمقام والمبيت بمنى ضاعت أموالهم وليس حكم غيرهم في هذا كحكمهم.
وقد اختلف الناس في تعيين اليوم الذي يرمي فيه فكان مالك يقول يرمون يوم النحر وإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد وذاك يوم النفر الأول يرمون لليوم الذي مضى ويرمون ليومهم ذلك، وذلك أنه لا يقضي أحد شيئا حتى يجب عليه. وقال الشافعي نحوًا من قول مالك، وقال بعضهم هم بالخيار إن شاءوا قدموا وإن شاءوا أخروا.

.ومن باب الحلق والتقصير:

قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم ارحم المحلقين قالوا يا رسول الله والمقصرين قال اللهم ارحم المحلقين قالوا يا رسول الله والمقصرين قال والمقصرين».
قلت: كان أكثر من أحرم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة ليس معهم هدي وكان صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي ومن كان معه هدي فإنه لا يحلق حتى ينحر هديه فلما أمر من ليس معه هدي أن يحل وجدوا من ذلك في أنفسهم وأحبوا أن يأذن لهم في المقلم على إحرامهم حتى يكملوا الحج وكانت طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بهم فلما لم يكن لهم بد من الإحلال كان القصر في نفوسهم أحب من الحلق فمالوا إلى القصر فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أخرهم في الدعاء وقدم عليهم من حلق وبادر إلى الطاعة وقصر بمن تهيبه وحاد عنه ثم جمعهم في الدعوة وعمهم بالرحمة.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حفص عن هشام عن ابن سيرين عن أنس بن مالك «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة يوم النحر ثم رجع إلى منزله بمنى فدعا بذِبح فذبح ثم دعا بالحلاق فأخذ بشق رأسه الأيمن فحلقه فجعل يقسم بين من يليه الشعرة والشعرتين ثم أخذ بشق رأسه الأيسر فحلقه ثم قال هاهنا أبو طلحة فدفعه إليه».
قلت: فيه من السنة أن يبدأ في الحلاق بالشق الأيمن من الرأس ثم بالشق الأيسر وهو من باب ما كان يستحبه صلى الله عليه وسلم من التيمن في كل شيء من طهوره ولباسه ونعله في نحو ذلك من الأمور.
وفيه أن شعر بني آدم طاهر فلا معنى لقول من زعم أن هذا خاص لرسول الله ولو لزم هذا في شعره للزم في منيه مثل ذلك فيقال إن مني سائر الناس نجس فلما لم يفترق الأمور في ذلك عنده وجب أن لا يفترق كذلك في الشعر. والذبح مكسورة الذال ما يذبح من الغنم والذَبح الفعل.
قلت: وفي قوله: «اللهم ارحم المحلقين» وجه آخر وهو أن السنة فيمن لبد رأسه الحلق وإنما يجزئ القصر فيمن لم يلبد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لبد رأسه.
وروى عنه أنه قال من لبد رأسه فليحلق من طريق عبد الله العمري عن نافع عن ابن عمر، وروي ذلك أيضًا عن عمر بن الخطاب وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال أصحاب الرأي إن قصر ولم يحلق أجزأه.

.ومن باب العمرة:

قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري، عَن أبي زائدة حدثنا ابن جريج ومحمد بن إسحاق عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: «والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلاّ ليقطع بذلك أمر أهل الشرك فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون إذا عفا الوبَر وبرأ الدبر ودخل صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر».
قوله: «عفا الوبر» معناه كثر وأثمر نباته يقال عفا القوم إذا كثر عددهم، ومنه قول الله تعالى: {حتى عفوا} [الأعراف: 95] وكانوا لا يعتمرون في الأشهر الحرم حتى تنسلخ.
قال أبو داود: حدثنا أبو كامل حدثنا أبو عوانة عن إبراهيم بن مهاجر، عَن أبي بكر بن عبد الرحمن قال أخبرني رسول مروان الذي أرسل إلى أم معقل قال: «جاء أبو معقل حاجًّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدم قالت أم معقل قد علمت أن عليَّ حجة فانطلقا يمشيان حتى دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن علي حجة وإن لأبي معقل بكرًا فقال أبو معقل صدقت جعلته في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطها فلتحج عليه فإنه في سبيل الله فأعطاها البكر فقالت يا رسول الله إني امرأة قد كبرت وسقمت فهل من عمل يجزئ عني من حجتي فقال عمرة في رمضان تجزئ حجة».
قلت: فيه من الففه جواز إحباس الحيوان. وفيه أنه جعل الحج من السبيل، وقد اختلف الناس في ذلك، وكان ابن عباس لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاته في الحج وروي مثل ذلك عن ابن عمر، وكان أحمد وإسحاق يقولان يعطي من ذلك في الحج، وقال سفيان وأصحاب الرأي والشافعي لا تصرف الزكاة إلى الحج وسهم السبيل الغزاة والمجاهدون.

.ومن باب الحائض تخرج بعد الإفاضة:

قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر صفيه بنت حُيَي فقيل إنها قد حاضت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلها حابستنا فقالوا يا رسول الله إنها قد أفاضت قال فلا إذًا».
قلت: طواف الإفاضة هو الذي يدعي طواف الزيارة وهو الواجب الذي لا يتم الحج إلاّ به.
وفيه دليل على أن طواف الوداع ليس بواجب وأوجبوا على من تركه دما إلاّ الحائض فإنها إذا تركته لم يلزمها شيء. وفيه دليل على أن الطواف لا يصح من الحائض وأنها لا تدخل المسجد ولا تقرب البيت.
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عوف أخبرنا أبو عَوانة عن يعلى بن عطاء عن الوليد بن عبد الرحمن عن الحارث بن عبد الله بن أوس قال: «أتيت عمر بن الخطاب فسألته عن المرأة تطوف بالبيت يوم النحر ثم تحيض، قال ليكن آخر عهدها بالبيت، قال فقال الحارث كذلك أفتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: اربْتَ عن يديك سألتني عن شيء سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لكيما أخالف».
قوله: اربت دعاء عليه كأنه يقول سقطت آرابه وهي جمع أرب وهو العضو. قلت وهذا على سبيل الاختيار في الحائض إذا كان في الزمان نفَس وفي الوقت مهلة. فأما إذا أعجلها السير كان لها أن تنفر من غير وداع بدليل خبر صفية، وممن قال أنه لا وداع على الحائض مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وهو قول أصحاب الرأي وكذلك قال سفيان.

.ومن باب التحصيب:

قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: «إنما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصب ليكون اسمح لخروجه».
قلت: التحصيب إذا نفر الرجل من منى إلى مكة للتوديع أن يقيم بالشعب الذي يخرجه إلى الأبطح حتى يهجع بها من الليل ساعة ثم يدخل مكة وكان هذا شيئا يفعل ثم ترك.

.ومن باب من قدم شيئا قبل شيء في حجه:

قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: «وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى يسألونه فجاء رجل فقال يا رسول الله إني لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اذبح ولا حرج، وجاء آخر فقال يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي قال ارم ولا حرج، قال فما سئل يومئذٍ عن شيء قدم أو أخر إلاّ قال اصنع ولا حرج».
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الشيباني عن زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال: «خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم حاجا فكان الناس يأتونه فمن قائل يا رسول الله سعيت، يَعني قبل أن أطوف وأخرت شيئا أو قدمت شيئا فكان يقول لا حرج لا حرج إلاّ على رجل اقترض من عرض رجل مسلم وهو ظالم فذلك الذي حَرِج وهلَك».
قلت: ظاهر هذا الحديث أنه إذا حلق رأسه قبل أن يذبح أو نحر قبل أن يرمي فلا شيء عليه، وإلى هذا ذهب مجاهد وطاوس وهو قول الشافعي وسواء عندهم فعله ناسيا أو متعمدا.
وقال أحمد وإسحاق فيمن فعل ذلك ساهيا فلا شيء عليه كأنه يرى أن حكم العامد خلاف ذلك ويدل على صحة ما ذهب إليه أحمد قوله في هذا الحديث إني لم أشعر فحلقت.
وذهب قوم إلى أنه إذا قدم شيئا أو أخره كان عليه دم. وروي ذلك عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وقتادة وإليه ذهب مالك بن أنس.
وتأول بعض من ذهب إلى هذا القول من أصحاب الرأي. قوله: «ارم ولا حرج» على أنه أراد رفع الحرج في الإثم دون الفدية، قال وقد يجوز أن يكون هذا السائل مفردا فلا يلزمه دم وإذا كان متطوعًا بالدم لم يلزمه في تقديمه وتأخيره شيء.
قلت: قوله: «لا حرج» ينتظم الأمرين جميعا الإثم والفدية لأنه كلام عام، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إما متمتعين أو قارنين على ما دلت عليه الأخبار والدم على القارن والمتمتع واجب. على أن السائل عن هذا الحكم لم يكن رجلا واحدًا فقط إنما كانوا جماعة ألا تراه يقول فمن قائل أخرت شيئا أو قدمت شيئا وهؤلاء لا يتفق أن يكونوا كلهم مفردين فكان هذا الاعتراض غير لازم.
وأما قوله سعيت قبل أن أطوف فيشبه أن يكون هذا السائل لما طاف طواف القدوم قرن به السعي، فلما طاف طواف الإفاضة لم يعد السعي فأفتاه بأن لا حرج لأن السعي الأول الذي قرنه بالطواف الأول قد أجزأه.
فأما إذا لم يكن سعى إلى أن أفاض فالواجب عليه أن يؤخر السعي عن الطواف لا يجزيه غير ذلك في قول عامة أهل العلم إلاّ في قول عطاء وحده فإنه قال يجزئه وهو قول كالشاذ لا اعتبار له.
قوله: «اقترض» معناه اغتاب وأصله من القرض وهو القطع.

.ومن باب حرم مكة:

قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال: «لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين وإنما أحلت لي ساعة من النهار ثم هي حرام إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلاّ لمنشد فقام عباس أو قال فقال يا رسول الله إلاّ الإذخر» قال وزادنا فيه ابن المصفى عن الوليد «فقام أبو شاة رجل من أهل اليمن فقال اكتبوا لي يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتبوا لأبي شاة قلت للأوزاعي ما قوله اكتبوا لأبي شاة. قال هذه الخطبة».
قوله: «إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين». ثم قوله: «وإنما أحلت لي ساعة من النهار» يستدل بهما من يذهب إلى أن مكة فتحت عنوة لا صلحا. وتأول غيرهم قوله: «وإنما أحلت لي ساعة من النهار» على معنى دخوله إياها من غير إحرام لأنه دخلها وعليه عمامة سوداء.
وقيل إنما أحلت له في تلك الساعة إراقة الدم دون الصيد وقطع الشجر وسائر ما حرم على الناس منه.
وقد سأل بعض الملحدين عن هذا فقال لم كان حبس الفيل في زمان الجاهلية عنها ومنعه منها ومن الإفساد والإلحاد فيها ولم يمنع الحجاج بن يوسف في زمان الإسلام عنها وقد نصب المنجنيق على الكعبة وأضرمها بالنار وسفك فيها الدم الحرام وقتل عبد الله بن الزبير وأصحابه في المسجد وكيف لم يحبس عنها القرامطة وقد سلبوا الكعبة ونزعوا حليتها وقلعوا الحجر وقتلوا العالم من الحاج وخيار المسلمين بحضرة الكعبة. فأجاب عن مسألته بعض العلماء بأن حبس الفيل عنها في الجاهلية كان علما لنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنويها بذكر آبائه إذ كانوا عمار البيت وسكان الوادي فكان ذلك الصنيع إرهاصا للنبوة وحجة عليهم في إثباتها فلو لم يقع الحبس عنها والذب عن حريمها لكان في ذلك أمران أحدهما فناء أهل الحرم وهم الآباء والأسلاف لعامة المسلمين ولكافة من قام به الدين، والآخر أن الله سبحانه أراد أن يقيم به الحجة عليهم في إثبات نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يجعله مقدمة لكونها وظهورها فيهم فكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عامئذ وكانوا قومًا عربًا أهل جاهلية ليست لهم بصيرة في العلم ولا تقدمة في الحكمة وإنما كانوا يعرفون من الأمور ما كان دركه من جهة الحس والمشاهدة فلو لم يجر الأمر في ذلك على الوجه الذي جرى لم يكن يبقى في أيديهم شيء من دلائل النبوة تقوم به الحجة عليهم في ذلك الزمان.
فأما وقد أظهر الله الدين ورفع أعلامه وشرح أدلته وأكثر أنصاره فلم يكن ما حدث عليها من ذلك الصنيع أمرًا يضر بالدين أو يقدح في بصائر المسلمين وإنما كان ما حدث منه امتحانًا من الله سبحانه لعباده ليبلو في ذلك صبرهم واجتهادهم ولينيلهم من كرامته ومغفرته ما هو أهل التفضيل به والله يفعل ما يشاء وله الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.
وقوله: «لا يعضد شجرها» معناه لا يقطع والعضد القطع قلت وسواء في ذلك ما غرسه الآدميون وما نبت من غير غرس وتنبيت لأن العموم يسترسل على ذلك كله وهو ظاهر مذهب الشافعي، وسمعت أصحاب أبي حنيفة يفرقون بين ما ينبت من الشجر في الحرم وبين ما ينبته الآدميون ويجعلون النهي مصروفا إلى ما أنبته الله تعالى دون غيره.
ويحكى عن مالك أنه قال لا شيء على من قطع شيئا من شجر الحرم وهو قول داود وأهل الظاهر وأما الشافعي فإنه يرى فيه الفدية.
وقوله: «لا ينفر صيدها» معناه لا يتعرض له بالاصطياد ولا يهاج فينفر.
وحكي عن سفيان بن عيينة أنه قال معناه أن يكون الصيد رابضا في ظل الشجرة فلا ينفره الرجل ليقعد فيستظل مكانه وقوله: «لا تحل لقطتها إلاّ لمنشد» فإن المنشد هو المعرف تقول نشدت الضالة إذا طلبتها وأنشدتها إذا عرفتها.
وقد اختلف الناس في حكم ضالة الحرم فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه لا فرق بينها وبين ضالة الحل. وكان عبد الرحمن بن مهدي يذهب إلى التفرقة بينها وبين ضالة سائر البقاع ويقول ليس لواجدها منها غير التعريف أبدا ولا يملكها بحال ولا يستنفقها ولا يتصدق بها حتى يظفر بصاحبها، وكان يحتج بقوله: «لا تحل لقطتها إلاّ لمنشد»، ويحكى عن الشافعي نحو من هذا القول.
وفي الحديث دليل على أن كتاب العلم وتدوين أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وتخليدها في الصحف جائز وقد رويت الكراهة في ذلك عن بعض السلف.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس في هذه القصة قال: «ولا يختلي خلاها».
قلت: الخلاء الحشيش ومنه سميت المخلاة، وكان الشافعي يقول لا يحتش من الحرم، فأما الرعي فلا بأس به وتفصيل ذلك على مذهبه أن ينظر إلى الحشيش فإن كان يستخلف إذا قطع كان جائزًا قطعه، وكذلك القضيب من أغصان الشجر وإن كان لا يستخلف لم يجز وفيه ما يقصه. ويكره على مذهبه إخراج شيء من أحجار مكة ومن جميع أجزاء أرضها وتربتها لتعلق حرمة الحرم بها إلاّ إخراج ماء زمزم فإنه غير مكروه لما فيه من التبرك والتشفي.
وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن لا يحتش ولا يرعى وقول أبي يوسف قريب من قول الشافعي.
قلت: فأما الشوك فلا بأس بقطعه لما فيه من الضرر وعدم النفع ولا بأس بأن ينتفع بحطام الشجر وما بلي منه والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن يوسف بن ماهك عن أمه عن عائشة قالت: «قلت يا رسول الله ألا نبني لك بيتا أو بناء يظلك من الشمس فقال لا إنما هو مُناخ من سبق إليه».
قلت: قد يحتج بهذا من لا يرى دور مكة مملوكة لأهلها ولا يرى بيعها وعقد الإجارة عليها جائز وقد قيل إن هذا خاص للنبي صلى الله عليه وسلم وللمهاجرين من أهل مكة فأنها دار تركوها لله تعالى فلم ير أن يعودوا فيها فيتخذوها وطنا أو يبنوا فيها بناء والله أعلم.